بنى الفكر الصهيوني نظريته في العمل على قيام كيان لليهود على أرض فلسطين منذ آواخر القرن التاسع عشر على نفي وجود شعب في فلسطين. وقد ساهمت ظروف عديدة منها الدعم السياسي الغربي لإقامة ذلك الكيان على تكوين رأي عام غربي مقتنع بهذا التوجه. وإعتقد الإسرائيليون بعد قيام كيانهم على أرض فلسطين في الخامس عشر من آيار من عام 1948 أن تمكين دولتهم في خضم ظروف معقدة أهمها الجيوسياسية يقوم على عدة عوامل أساسها الإستمرار في تبني تلك السياسة والإمعان في نفي الآخر وإنكار أهليته كشعب متماسك يستحق تلك الأرض. والمتابع لتصريحات المسئولين الإسرائليين في المراحل الأولى سواء بن غوريون أو بعده غولدا مائير يجد هذه السياسة واضحة ومعتمدة. وزاد من غلوهم في ذلك نجاحهم في التهجير القسري لأكثر من 700 ألف فلسطيني من ديارهم وإنتهاء مآلهم إلى مخيمات منتشرة في عدة دول مجاورة أو الإنتشار الإضطراري في أصقاع الأرض.
وجاءت الأحداث وخلال ما يقرب من الستة عقود من عمر الصراع لتثبت لقادة الكيان الصهيوني فشل هذه السياسة. وكان صمود الشعب الفلسطيني في فلسطين وخارج الأرض المحتلة ونضاله وجهاده على كافة الأصعدة والميادين وإعتماد سياسيةالمقاومة في مراحل مبكرة وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وتاليا إنتفاضات الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة، وحفاظ الفلسطينيين حيثما وجودوا على هويتهم الوطنية الفلسطينية ببعديها العربي الإسلامي، دون إستثناء فلسطينيي 48، إلى جانب دعم عربي لا يمكن إنكاره أو تجاهله إن سياسيا أو لوجستيا. كل ذلك ولّد قناعة لديهم، أي الصهاينة، أنه لا يمكن المضي بعيدا في محو الشعب الفلسطيني من خارطة التاريخ أو إنكار وجوده. ولا يمكن بحال إستنساخ التجربة الإحلالية الإستأصالية للهنود الحمر في أمريكيا أو تجربة السحق للسكان الأصليين في القارة الأسترالية من قبل المستوطنين البيض الجدد، على الفلسطينيين .
وبرزت القناعة باستحالة الإستقرار للكيان الصهيوني دون التفاهم مع الفلسطينيين. وساهمت دوائر صنع القرار في العواصم الغربية في ترسيخ هذه القناعة. بحيث أن الضامن الوحيد لشرعية الكيان العبري على أرض فلسطين هو إعتراف الشعب الفلسطيني نفسه للقادمين الجدد بحقهم في العيش وإقامة دولتهم. ولهذا كان السؤال الاول الذي إصطدم به السياسيون الفلسطينيون خلال العقود السابقة في نضالهم السياسي وخلال لقائهم بالرسميين الغربيين هو الموقف من حق الوجود لدولة إسرائيل. ويؤكد على هذا أن الثمن السياسي الذي دفعه الرئيس الراحل ياسر عرفات لكي تفتح له أبوب الدبلوماسية الأمريكية هو خطابه الشهير في جنيف سنة 1988 والذي أعلن فيه أن الميثاق الوطني الفلسطيني والذي لا يعترف باسرائيل لاغ ( وقد نطقها بالفرنسية إنذاك، كادوك).
وقد أخذت هذه القناعة شكل الحاجة إلى تمثيل حقيقي للشعب الفلسطيني مع إنشاء كيان فلسطيني بمسمى دولة حسب المواصفات الإسرائيلية يتسنى من خلاله إعطاء الشرعية الرسمية المعتمدة دوليا للكيان الصهيوني من قبل الشعب الفلسطيني. وهذا ما طور الأمور وصولا إلى إتفاق أوسلو الذي وقع بين الدولة العبرية وقادة منظمة التحرير الفلسطينية. وتجاوز الإسرائيليين عن تاريخ المنظمة التحرير في سبيل الغاية الأسمى وهي الوصول إلى الشرعية الدائمة المطمئنة لكيانهم الغاصب.
ومما غذى هذا التوجه الدراسات التي صدرت عن الإستراتيجيين والأكاديميين الإسرائيليين ونقلوها عنهم بعد ذلك أكاديميين غربيين ك "دونا إريتز" الأمريكية في أن الدولة الفلسطينية المنتظرة ضرورة ملحة لحل المشكل الأكثر تعقيدا لديهم في طريق الشرعية والأمان للكيان الصهيويي ألا وهي مشكلة اللاجئين الفلسطينيين . وتحولت هذه الدراسات إلى ما يشبه السياسة بعد ذلك، وعقدت الجلسات الطويلة في المحافل الغربية لإكتشاف طرق تطبيقها. وقد ساهمت شخصية الرئيس أبوعمار وإمتلاكه لكل مقاليد الأمور على الساحة الفلسطينية في قبول الساسة الإسرائيليين به شريكا- بالرغم من ماضيه- لعله يمضي في إقناع الشعب الفلسطيني في مشروع التسوية وبالتالي تحقيق الإستراتيجية الصهيونية.
ومضى الأسرائيليون خطوة متقدمة في الحصول على ال "نعم" الفلسطينية الشرعية والتعبير عن حاجتهم الجارفة لها- مع الإختلال اللامعقول في ميزان القوة مع الطرف الفلسطيني لصالحهم- بموافقتهم على تضمين إتفاق أوسلو وجود مجلس تشريعي منتخب في الضفة وغزة، وسهرت الحكومة الإسرائيلية على إنجاح إنتخابات 1996 والخاصة بالمجلس لكي يكون هناك تمثيلا ديموقراطيا حقيقيا يمضي في عقد إتفاقات معهم. ومن ناحية أخري مثّل إصرار بنيامين نتانياهو في سنة 1996 أيضا وأثناء فترة ترأسه للحكومة بعد مقتل رابين في أن يجتمع المجلس الوطني الفلسطيني في غزة ويؤكد على إلغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني كشرط للمضي في الحوار مع أبو عمار شكلا أخر من حرصهم على الحصول على الإعتراف من قبل الفلسطينيين بشرعية وجودهم. وقد حصل ذلك بالفعل وبشكل إحتفالي وبحضور الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون.
وساهم رفض التيار المعارض لنهج أوسلو لكل الصيغ التي نتجت عن هذا الإتفاق وإعتماد منهج المقاومة المسلحة ضد الوحشية الإسرائيلية التي تستهدف كل ما هو فلسطييني من بشر وحجر في رفع الغطاء عن إتفاق أوسلو والتشكيك في مصداقية تمثيل الموقعين عليه للشعب الفلسطيني. ودعم هذا التوجه إندلاع إنتفاضة الأقصى سنة 2000 ودخول كل الفصائل بما فيها حركة فتح في ميدان المقاومة المسلحة. وتولدت عند الإسرائليين قناعة بناء على تلك الأحداث أن طبيعة شخصية الرئيس عرفات المناورة لا تؤهله لأن يستمر في قيادة الشعب الفلسطيني وتحقيق الرغبات الإسرائيلية الإستعلائية بالكامل. وكان القرار الإسرائلي بتغييب الرئيس عرفات من الخارطة السياسية مع عدم التخلي عن فكرة الإنتخابات الفلسطينية التي ستؤدي إلى دولة ما بتمثيل حقيقي تفضي إلى مفاوضات نهائية على المقاس الإسرائيلي وتنهي مما تنهيه قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة. ولهذا وبمجرد إغتيال الرئيس عرفات كانت إنتخابات الرئاسة الفلسطينية التي أعطت شيئا من الشرعية للرئيس محمود عباس. وتم الإعلان عن المضي في إنتخابات المجلس التشريعي مع الحاجة الملحة في أن يكون التمثيل واسعا.
وهنا نشيير إلى أهم العقد المتولدة عن قضية اللاجئين والمستعصية على الحل إسرائيليا خلال العقود الماضية تتمثل في المسئولية عن تهجيرهم وتحمل كل التبعات المترتبة على لذلك، وكذلك الحفاظ على صفة اللجوء التي أصبحت هوية سياسية تشكل خطرا على أمن الكيان الإسرائيلي طوال السنين الماضية وكذا بقاء المخيم واللذان يشكلان حافزا دائما للاجئين في المطالبة بحقوقهم. ووجود البعد الدولي للقضية والمتمثل بالقرارات الأممية وكذلك الهيئات الدولية كالأنروا ودورها الحيوي في التنبيه الدائم بالمشكلة الفلسطينية. ويعتقد الإسرائيليون بأن قيام دولة فلسطينية ما بتمثيل فلسطيني حقيقي ووجود حكومة منتخبة منسجمة مع ما يريدون ممكن أن تؤدي إلى تجاوز كل ما تقدم بإعتبار أن الدولة ستنهي صفة اللاجئ نحو إصدار جوازات وتفكك المخيمات لصالح قرى وبنى تحتية جيدة وتلغى وكالة الأنروا وتنقل صلاحياتها للدولة. ويتحقق مبدأ حق العودة بالعودة الجزيئة لأراضي السلطة الفلسطينية. كل ذلك لا يأتي إلا بحكومة فلسطينية متعاونة بل ومنسجمة تماما مع هذا التوجه ومع الرغبات الإسرائيلية المدعومة غربيا. وهذا ما كان مرجوا من الإنتخابات الفلسطينية أن تفرزه.
ولعل مثل هذه القناعة هي التي أدت إلى رغبة حقيقية دولية بل وإسرائيلية بمشاركة واسعة في الإنتخابات الفلسطينية من قبل كل القوى حتى الإسلامية وخاصة حركة حماس. بالرغم من عدم إستعداد الحركة للتخلي عن سلاحها المقاوم للإحتلال وعدم إستعدادها للإعتراف بالكيان الصيوني كشرطين لدخول الإنتخابات.
وكانت الحاجة إلى تمثيل فلسطيني حقيقي واسع بمختلف الألوان السياسية ولا يشكك به أحد يفضي إلى تفويض لرجال تيار أوسلو والمتمثل في الرئيس محمود عباس وتصبح له الشرعية الرئاسية وكذلك في المجلس التشريعي. وأدت هذه الحاجة الإستراتيجية إلى الإمعان في سوء التقدير لحجم حركة حماس والتأييد الواسع لبرنامجها في الشارع الفلسطيني من قبل الإسرائيليين وأصحاب نهج التسوية في حركة فتح.
وجاء فوز حركة حماس كالصاعقة بالنسبة لأصحاب حلم إنهاء الصراع العربي الصهيوني على المقاس الإسرائيلي. ونحتاج إلى شرح طويل لإستعراض كافة الأسباب للصدمة الغربية من جراء هذا الفوز. ولكن ما يعنينا هنا أثر ذلك على موضوعة اللاجئين وحق العودة كما يراها الغربيون ومن قبلهم الإسرائيليين. لقد عبر أحد المختصين في العالم الغربي في قضيةاللاجئين لكاتب هذه السطور أن نتائج الإنتخابات الفلسطينية مثلت سقوط وإنهيار لكل السيناريوهات المحتملة لحل مشكلة اللاجئين والتي إشتغل عليها الغربيون لسنين عديدة وصرفت أموال طائلة لكي تتم.
لقد عنى الفوز ضمنيا للإسرائيليين أنهم وبعد 58 سنة من قيام دولتهم ما زالوا يعشون رعب الإعتراف مع الشعب الفلسطيني. وأنهم بغطرسة أدت إلى غباء سياسي مشهود سجله التاريخ ساقوا مع الغربيين الأسباب والوسائل الفنية لكي يجعلوا هذه الإنتخابات الفلسطينية غاية في الشفافية إعتقادا منهم أنهم سيحصلون على نتائج تعطى لهم الإستقرار والأمان ويهربوا بجريمتهم. فإصطدموا بحقيقة إستراتيجية لم يعوها بالرغم من عشرات المؤشرات. أن خلافهم وصراعهم ليس مع مجموعات فلسطينية مسلحة لا رصيد لها في الشارع كما كان يروج أصحاب الإستطلاعات المشبوهه، وأصحاب التيار المفاوض. بل هي إرادة شعب بأكمله يريد أن يسترد كامل حقوقه وهو يعي جيدا طبيعة الكيان الإسرائيلي الذي يجرعه الذل صباح مساء. ومرة أخرى إستطاع الشعب الفلسطيني أن يكون أكبر من المحتل الغاصب ورد كيده إلى نحره وأفسد عليه مؤامرة كانت تستهدف النيل من حقوقه وعلى رأسها حق العودة.
أعتقد أنه مطلوب من الحكومة الفلسطينية المنتخبة ومن ورائها التيار العريض في الشارع الفلسطيني في الداخل وبالتنسيق مع الفصائل الفلسطينية في الداخل والخارج مع إشراك مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني حيث وجدت، تطوير وسائل وآليات تكشف المخططات التي تستهدف النيل من الحقوق الفلسطينية وتدفع إلى المزيد من الوحدة الوطنية الفلسطينية والتي يمثل حق العودة فيها عاملا مشتركا يجمع عليه الشعب الفلسطيني حيث كان.